التمارين الرياضية.. كيف يمكنها تحسين القدرات الذهنية؟
التمارين الرياضية.. كيف يمكنها تحسين القدرات الذهنية؟
قد تكون أهمية ألعاب التدريب الذهني غير مؤكدة، كما كتب دان هيرلي في مقاله عن «كيف نصبح أكثر ذكاء؟»، ولكن هناك طريقة أخرى سهلة التحقيق ومثبتة علميا لكي تصبح أكثر ذكاء.. اذهب لممارسة رياضة المشي أو للسباحة.
وقد ظل علماء الأعصاب والفسيولوجيا على مدى أكثر من عقد يجمعون الأدلة على وجود علاقة إيجابية بين ممارسة التمارين الرياضية والقدرة الذهنية، لكن النتائج الأحدث أوضحت أنها ليست مجرد علاقة فقط، بل هي جوهر العلاقة نفسها.
التمارين والدماغ
وجد العلماء في الأشهر القليلة الماضية – باستخدام تقنيات معقدة لاختبار آليات عمل الخلايا العصبية الفردية وتحسين مادة الدماغ نفسها – أن التمارين الرياضية تحمي الدماغ وتمكنه من مقاومة الانكماش، كما تحسن من مرونة الإدراك، حيث يشير علم الأعصاب الحديث إلى أن التمارين الرياضية قد تحدث أثرا أكبر لتحسين التفكير عما يحدثه التفكير نفسه.
تأتي أكثر الدلائل إقناعا من عدة دراسات حديثة على حيوانات المختبر التي تعيش في أقفاص مزدحمة ومليئة بالحركة. ومن المعروف منذ زمن أن ما يسمى بالبيئة «الثرية» – المنازل المليئة باللعب والتواصل والطرق المبتكرة – تؤدي إلى تحسين القدرة الدماغية لدى حيوانات المختبر. وفي أغلب الأمثلة تشمل البيئة الثرية عجلة تجري حيث تستمتع الفئران والجرذان بالركض. حتى وقت قريب لم يكن هناك الكثير من الأبحاث الخاصة بتأثيرات الركض مقارنة بتلك التأثيرات الناتجة عن اللعب بألعاب حديثة أو شغل الذهن بأي طريقة أخرى لا تزيد من سرعة نبضات القلب.
وقام فريق من الباحثين العام الماضي بقيادة جاستن رودس، أستاذ علم النفس بمعهد بيكمان للعلوم والتكنولوجيا المتقدمة بجامعة إلينوي، بتقسيم الفئران إلى أربع مجموعات ووضع كل منها في ظروف معيشية مختلفة، إذ عاشت مجموعة في عالم حسي يتطلب استخداما لحاسة التذوق، حيث تتغذى على المكسرات والفاكهة والجبن، كما يتم رش بعض القرفة على طعامها، ويتم غسيل كل ذلك بمياه ذات نكهة، كما كان فراشها عبارة عن قبب بلاستيكية ملونة تحتل ركنا واحدا في القفص، بينما تملأ أجزاء أخرى من القفص كرات نيون ملونة، وأنفاق بلاستيكية وكتل يمكن قضمها، ومرايا وأرجوحات. وحصلت المجموعة الثانية على كل تلك المتع بالإضافة إلى عجلات على شكل قرص تجري في أقفاصها، بينما وضعت مجموعة ثالثة في أقفاص لا يوجد بها أي زخارف، وتأكل طعامها المعهود فقط. وتحتوي منازل المجموعة الرابعة على عجلات دون أي دمى أو حلوى.
أتم جميع الحيوانات سلسلة من الاختبارات المعرفية في بداية الدراسة وتم حقنها بمادة تسمح للعلماء بتتبع أي تغييرات في هياكل أدمغتها، وبعد ذلك ركضت ولعبت أو تكاسلت في أقفاصها لعدة أشهر، إذا كانت البيئة حولها غير ثرية.
بعد ذلك وضع فريق رودس الفئران في نفس الاختبارات المعرفية بالإضافة إلى فحص أنسجة أدمغتها. وعرف في ما بعد أن اللعب والنكهات، بغض النظر عن كونها عوامل محفزة، لم تحسن من ذكاء الحيوانات.
قال رودس: «هناك أمر واحد أحدث فرقا، وهو إذا كان لديها عجلة أم لا»، لأن الحيوانات التي قامت بتمارين، سواء كانوا في بيئة ثرية أم لا، كانت تتمتع بلياقة ذهنية وكان أداؤها في الاختبارات المعرفية أفضل من الفئران الأخرى. على الجانب الآخر لم تتحسن قدرات الحيوانات التي لم تركض، بغض النظر عن مدى ثراء عالمها. ويقول رودس: «إنها تحب اللعب». نادرا ما تظل الفئران في المناطق الهادئة الخالية داخل أقفاصها، لكنها لن تصبح أكثر ذكاء لو لم تقُم بالتمرينات الرياضية.
تمرين العقل
لماذا تساعد التمارين الرياضية في تحسين القدرة الذهنية، بينما لا يقوم التفكير بالدور نفسه؟
العقل مثل بقية الأعضاء والعضلات، هو نسيج، ويتدهور مع قلة الاستخدام أو التقدم في السن. بداية من أواخر سن العشرينات يفقد معظمنا نحو 1 في المائة سنويا من حجم «الحصين»، وهو جزء في المخ مرتبط بالذاكرة وأنواع معينة من التعلم.
يبدو أن التمارين الرياضية تبطئ أو تبطل الضمور المادي للمخ، كما تفعل مع العضلات. وعلى الرغم من اعتقاد العلماء حتى وقت قريب أن البشر قد خلقوا بعدد معين من خلايا المخ وقد لا ينتجون مزيدا منها، فقد وجد الباحثون في التسعينات باستخدام تكنولوجيا لتحديد الخلايا الجديدة أثناء التشريح أن أدمغة البشر البالغين تحتوي على عدد قليل من الخلايا العصبية الجديدة.
وتنتشر الخلايا الجديدة في قرين آمون (الحصين) hippocampus، مما يدل على أن تكون الخلايا العصبية – خلق خلايا دماغية جديدة – يحدث بشكل أساسي في تلك المنطقة. واكتشف الباحثون أن التمارين تحدث قفزة في إعادة تكون الخلايا العصبية، حيث كان عدد الخلايا العصبية في الحصين لدى الفئران والجرذان التي ركضت لبضعة أسابيع ضعف عددها في الحيوانات قليلة الحركة. لقد ازداد حجم أدمغتها مثلما ازداد حجم العضلات الأخرى.
يعد ذلك التأثير الذي لا يوصف للتمارين الرياضية على عمل الخلايا العصبية حديثة التكون هو الأكثر إثارة للدهشة. قد يكون لخلايا المخ تأثير إيجابي على القدرة الذهنية فقط إذا اتصلت بالشبكة العصبية الموجودة، حيث لا تتصل الكثير من الخلايا بعضها ببعض، بل تدور بلا هدى حول المخ لفترة قبل أن يموتوا.
شبكة عصبية
توجد طريقة واحدة لجذب الخلايا العصبية، وهي بتعلم شيء. أوضحت دراسة أجريت عام 2007 أن خلايا المخ في الفئران تنضم إلى شبكة الخلايا العصبية في أدمغتها عندما تتعلم كيفية التنقل في متاهة مائية، وهي مهمة صعبة من الناحية الفكرية وليس البدنية، ولكن كانت قدرات تلك الخلايا محدودة. وعندما درس الباحثون النشاط العقلي بعد ذلك وجدوا الخلايا التي اتصلت مؤخرا بالشبكة تتحرك فقط عندما تقوم الحيوانات بالتنقل داخل المتاهة المائية، وليس عند قيامها بعمليات معرفية أخرى. لم تنتقل مهارة التعلم الموجودة بتلك الخلايا إلى نوع آخر من أنواع التفكير لدى القوارض.
على الجانب الآخر، يبدو أن التمارين الرياضية تجعل الخلايا العصبية خفيفة الحركة. عندما جعل الباحثون في دراسات متفرقة الفئران تركض، ربطت أدمغتها الكثير من الخلايا العصبية بالشبكة العصبية، لكن لم تقتصر حركة تلك الخلايا بعد ذلك على فترة الركض، بل حدث ذلك خلال قيام الحيوانات بعمليات معرفية مثل اكتشاف بيئة جديدة. في حالة الفئران لم يكن للركض نفس تأثير التعلم، حيث أدى الركض إلى تكون خلايا مخية قادرة على القيام بمهام متعددة.
لم يكتمل بعد فهم الآلية التي تعيد بها التمرينات الرياضية إعادة بناء خلايا المخ على مستوى الجزيئات، لكن يشير البحث إلى أن التمارين الرياضية تؤدي إلى زيادة ما يسمى بالعامل العصبي لنمو الدماغ (B.D.N.F)، وهي مادة تقوي الخلايا ومحاور الخلايا العصبية، كما تقوي الروابط بين الخلايا العصبية وتساعد على تكوين النسيج العصبي.
ليس بإمكان العلماء دراسة هذه التأثيرات على المخ البشري، ولكنهم وجدوا أنه وبعد ممارسة التمارين الرياضية يظهر في دماء أغلب الأشخاص نسبة أعلى من العامل العصبي لنمو الدماغ. ويعتقد قليل من العلماء أن نسبة أعلى من العامل العصبي لنمو الدماغ تفسر كل التغيرات المصاحبة لممارسة الرياضة التي تحدث للعقل، حيث تشمل العملية بالتأكيد تسلسلا بيوكيميائيا ووراثيا معقدا.
ووجدت دراسة حديثة لمخ للفئران كبيرة السن، على سبيل المثال، أن هناك 117 جينا وراثيا يظهر بشكل مختلف في مخ الحيوانات التي بدأت برنامجا للركض مقارنة بالحيوانات التي لم تتحرك كثيرا، حيث ركز الباحثون على كمية صغيرة من الجينات الوراثية التي قد تظهر بشكل مختلف في المخ بعد ممارسة الرياضة.
هل تؤدي ممارسة الرياضة إلى تلك النتائج المرغوبة أم لا؟ يظل ذلك سؤالا دون إجابة ومثيرا للفضول. ويقول عالم النفس والأعصاب أرثر كرامر، مدير معهد بيكمان بجامعة إلينوي وخبير بارز بالتمارين الرياضية والمخ: «ليس من الواضح ما إذا كان النشاط يجب أن يكون تمرينا مستمرا أم لا».
وأشارت بعض الدراسات في السنوات القليلة الماضية إلى تمتع كبار السن الذين قاموا برفع أوزان ولم يقوموا بممارسة أي رياضة، بفوائد معرفية، لكن أغلب الدراسات التي أجريت حتى هذه اللحظة تضمنت الركض وتمرينات الآيروبك الأخرى. والرسالة التي يوجهها العلم هو عدم ضرورة أن تكون التمرينات مرهقة حتى يكون لها تأثير إيجابي على المخ. وعندما تم إجراء تجربة على 120 رجلا وسيدة من كبار السن قاموا خلالها بالمشي أو تمديد عضلاتهم خلال دراسة عام 2011، زاد حجم الحصين لديهم بعد عام.
في تلك الأثناء حدث ضمور لدى الأشخاص الذين مارسوا تمرينات تمدد العضلات، بينما كانت نسبة العامل العصبي لنمو الدماغ في دم الذين مارسوا المشي أعلى من تلك التي كانت في مجرى دم الذين مارسوا تمارين تمدد العضلات، كما كان أداؤهم في الاختبارات المعرفية أفضل.
وتوصل الباحثون إلى أن الحصين لدى من مارسوا رياضة المشي عاد إلى حاله قبل عامين أو أكثر، واستعاد من يبلغون 65 عاما حالة مخ أشخاص يبلغون من العمر 63 فقط من خلال المشي، وهو ما يعد نبأ سارا لأي شخص يشعر بالقلق كما نفعل جميعا إزاء ما نمر به عند تقدمنا في السن من ضمور بطيء في خلايا المخ.
المصدر/ الشرق الأوسط